أنت غبيّة
هكذا صرخت المعلمة كعادتها على سعاد عندما تعثرت في حل التمرين ، لكن للكلمة في هذه المرة وقعا مختلفا ، إذ نظرت سعاد بعينيها البريئتين إلى صديقاتها في الصف فوجدتهن يرمقنها بعيون تقول لها أنت غبيّة ،
ونظرت إلى معلمتها وهي تشرح فلم تسمع إلا كلمة أنت غبيّة ،
ورأت كتابها فإذا بجملة أنت غبيّة متكررة بين أسطره ،
وحتى جدار صفها رُسمت عليه عبارة " أنت غبيّة " .
عندها خرجت سعاد مسرعة من صفها ،
لم تكن رجلا سعاد تطأ الأرض عندما كانت تجري ولكنها كانت تهرول في الهواء ،
و لم تكن تنزل من الدرج مسرعة بل كانت الدرجات تُنزلها لتخرجها من المدرسة .
حاولت إدارة المدرسة تهدئة روعها إلا أن محاولاتها باءت بالفشل ، فسعاد تحتاج إلى الهروب بعيدا عن هذه الكلمة التي لم تعد تسمع سواها ، تريد العودة إلى المنزل ، تريد الغوص عميقا في أحضان والدتها علّها تشعر بالأمان ، تريد أن تطرب بصوت والدها علّ صوته يشتت ذلك الدوي في أذنها .
كان والدا سعاد ينظران إلى ابنتهما المفجوعة يوما بعد يوم ، كانا ينظران إلى زهرة ذابلة وضحكة صامتة وفرحة منطفئة ، وهي تصيح في صبيحة كل يوم ( لا أريد أن أدرس ، أنا فاشلة ، أنا غبية ، لا يمكن أن أنجح ، لا أستطيع أن أنجح )
وفي كل يوم تثور ثورتها التي لا يسكنها إلا قولهما ( ابقي اليوم ولا تذهبي وغدا سيكون أفضل بإذن الله )
لكن غدا لم يأت بعد ، بل ازداد ذبولها وشحوبها ،
فقرر والدها أن ينهي هذه القصة ويخرجها من المدرسة وهو حزين على وضعها فابنته طفلة في الصف الأول المتوسط ، وما زالت في بداية الطريق .
وذهب إلى مدرستها لسحب ملفها وفي خياله حلمه الذي طالما حلم به ، في خياله صورتها وهي تتسلم وسام تخرجها من الجامعة ، دمعت عينا والدها وهو يرى مستقبل ابنته ينتهي عند هذه المرحلة المبكرة ،
ولكنه تنهد وقال ( غدا سيكون أفضل بإذن الله )
فتحت سعاد صفحتها الجديدة من حياتها ، لتروي قصتها التي تشاركها والدتها في كتابة فصولها ، فهي معها مساعدةً في المطبخ ، مشاركةً في العناية بالصغار ، متابعةً جيدة للمسلسلات ، ورفيقةً في الزيارات والمواجيب ، وصاحبة رأي صائب عند التسوق .
لكن وبعد مرور عامين بدأت وصفات الطعام تتشابه عند سعاد حتى غدا الرز طعمه كالمعكرونة ،
وبدأت المسلسلات تتماثل لدرجة أن عادل إمام أصبح عندها توأما لحسين فهمي ،
وانتهى التجديد في تصاميم الأزياء عندما صار الثوب الطويل في نظرها كالقصير .
فقررت حينها أن تبدأ الدراسة من جديد .
فرح والداها بهذا القرار لكن فرحتهما كانت تقطعها فترة إعياء شديدة تصيب سعاد كلما تحدثت عن رغبتها في إكمال دراستها.
ما الذي يحدث لابنتنا ؟ ولماذا ؟
أسئلة كانت تراود الأبوين الحنونين
حتى جاء الفرج عندما فُتحت بالقرب من دارهم دار لتحفيظ القرآن ، وسارعت سعاد في التسجيل ، وبدأت تتلقى علوم القرآن والتجويد والتفسير في جوّ روحاني لا يمكن وصفه ،
آيات تتلى وأجزاء تُحفظ وإعجاز قرآني يُدرّس ، وأيّ حياة أفضل من هذه الحياة !
سابقت سعاد نظيراتها في الحفظ والتفسير ، واستطاعت في شهر فقط حفظ سورة البقرة ، تلك السورة التي كانت تستصعب قراءتها ولا تتوقع في يوم أن تحفظها ، هاهي اليوم تحقق إنجازا في حفظها .
وتوالت السور المحفوظة ، سورة بعد سورة ، وجزء بعد جزء ، في شهر بعد شهر .
وبعد فترة تقدم لخطبتها شاب وسيم على قدر عال من الخلق والدين ،
لم تتردد في قبوله ،
ولم يتردد أهلها في الاحتفال بعروسهم الجميلة ،
ولم يتردد عريسها في إعطائها الإذن باستكمال حفظ القرآن في دار التحفيظ الذي اعتادت عليه .
وبعد عام أكملت حفظ المصحف كاملا ، يا لفرحتها ويا لفرحة أهلها وصديقاتها بها .
لقد حفظت سعاد المصحف كاملا
فنظم الدار لها حفلا كبيرا حضره حشد عظيم من الأهل والأحباء والأصدقاء ،
وفي ظل أجواء هذا الاحتفال نودي اسمها لتكريمها مع قريناتها اللاتي حققن معها الإنجاز ذاته .
سارت متوجهة لخشبة المسرح ،
لم تكن تصعد درجات المسرح بل كانت الدرجات ترفعها إلى سطحه ،
ولم تكن تجري أو تهرول بل كانت تتهادى ففي أحشائها طفل ستحين ولادته بعد أيام .
واستلمت شهادتها
ونظرت إلى المسرح وعيناها تتنقل بين الصفوف والوجوه والأشخاص
وفجأة تقدمت إلى منتصف المسرح ورفعت شهادتها عاليا .
لم يعرف أحد لماذا رفعت شهادتها هكذا ! ولم يعرف أحد عمن كانت تبحث !
لقد كانت تبحث عن معلمتها لتقول لها
أنا لست غبيّة