سليم شمندى ابو الليل
المدير العام
الجنس : الابراج : العمر : 45 المشاركات : 1081 نقاط : 7417 سجل فى : 01/02/2009
| موضوع: سلسلة: الآيات الكونية المستخرجة من كتاب ( التبيان في أقسام القرآن ) لابن القيم (5) الخميس أبريل 16, 2009 8:18 pm | |
|
فصل في قوله تعالى { والمرسلات عرفا } ومن ذلك قوله تعالى { والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * والناشرات نشرا * فالفارقات فرقا * فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا * إنما توعدون لواقع } فسرت المرسلات بالملائكة، وفسرت بالرياح، وفسرت بالسحاب، وفسرت بالأنبياء. قلت: الله سبحانه يرسل الملائكة ويرسل الأنبياء ويرسل الرياح ويرسل السحاب فيسوقه حيث يشاء، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء، فإرساله واقع على ذلك كله، وهو نوعان: إرسال دين يحبه ويرضاه كإرسال رسله وأنبيائه. وإرسال كون وهو نوعان: نوع يحبه ويرضاه كإرسال ملائكته في تدبير أمر خلقه، ونوع لا يحبه بل يسخطه ويبغضه كإرسال الشيطان على الكفار. ويؤيد كونها الرياح عطف العاصفات عليها بفاء التعقيب والتسبب، فكأنها أرسلت فعصفت. ومن جعل المرسلات الملائكة قال: هي تعصف في مضيها مسرعة كما تعصف الرياح و الأكثرون على أنها الرياح. وأما { الناشرات نشرا } فهو استئناف قسم آخر ولهذا أتى به بالواو وما قبله معطوف على القسم الأول بالفاء. ويظهر - والله أعلم بما أراد من كلامه - أن القسم في هذه الآية وقع على النوعين: الرياح والملائكة. ووجه المناسبة أن حياة الأرض والنبات وأبدان الحيوان بالرياح، فإنها من روح الله، وقد جعلها الله تعالى نشورا، وحياة القلوب والأرواح بالملائكة. فبهذين النوعين يحصل نوعا الحياة. ولهذا - والله أعلم - فصل أحد النوعين من الآخر بالواو وجعل ما هو تابع لكل نوع بعده بالفاء. وتأمل كيف وقع القسم في هذه السورة على المعاد والحياة الدائمة الباقية، وحال السعداء والأشقياء فيها، وقررها بالحياة الأولى في قوله { ألم نخلقكم من ماء مهين } فذكر فيها المبدأ والمعاد وأخلص السورة لذلك، فحسن الإقسام بما يحصل به نوعا الحياة المشاهدة: وهو الرياح والملائكة. فكان في القسم بذلك أبين دليل وأظهر آية على صحة ما أقسم عليه وتضمنته السورة. ولهذا كان المكذب بعد ذلك في غاية الجحود والعناد والكفر، فاستحق الويل بعد الويل، فتضاعف عليه الويل، كما تضاعف منه الكفر والتكذيب. فلا أحسن من هذا التكرار في هذا الموضع، ولا أعظم منه موقعا فإنه تكرر عشر مرات، ولم يذكر إلا في أثر دليل أو مدلول عليه عقيب ما يوجب التصديق وما يوجب التصديق به فتأمله.
فصل في قوله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة } أخبر سبحانه في هذه السورة عن حال هذا الإنسان إذا شاهد اليوم الذي كذب به فقال { فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر } فبرق بصره أي يشخص بما يشاهده من العجائب التي كان يكذب بها، وخسف القمر ذهب ضوءه وانمحى، وجمع الشمس والقمر ولم يجتمعا قبل ذلك بل يجمعهما الذي يجمع عظام الإنسان بعدما فرقها البلى ومزقها، ويجمع للإنسان يومئذ جميع عمله الذي قدمه وأخره من خير أو شر، ويجمع ذلك من جمع القرآن في صدر رسوله، ويجمع المؤمنين في دار الكرامة فيكرم وجوههم بالنظر إليه، ويجمع المكذبين في دار الهوان، وهو قادر على ذلك كله كما جمع خلق الإنسان من نطفة من منى يمنى، ثم جعله علقة مجتمعة الأجزاء بعدما كانت نطفة متفرقة في جميع بدن الإنسان، وكما يجمع بين الإنسان وملك الموت ويجمع بين الساق والساق إما ساق الميت أو ساق من يجهز بدنه من البشر، ومن يجهز روحه من الملائكة، أو يجمع عليه شدائد الدنيا والآخرة فكيف ( أنكر ) هذا الإنسان أن يجمع بينه وبين عمله وجزائه، وأن يجمع مع بني جنسه ليوم الجمع وأن يجمع عليه بين أمر الله ونهيه، وعبوديته فلا يترك سدى مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب فلا يجمع عليه ذلك. فما أجمع هذه السورة لمعان الجمع والضم. وقد افتتحت بالقسم بيوم القيامة الذي يجمع الله فيه بين الأولين والآخرين، وبالنفس اللوامة التي اجتمع فيها همومها وغمومها وإرادتها واعتقاداتها. وتضمنت ذكر المبدأ والمعاد، والقيامة الصغرى والكبرى، وأحوال الناس في المعاد، وانقسام وجوههم إلى ناظرة منعمة، و باسرة معذبة. وتضمنت وصف الرياح بأنها جسم ينتقل من مكان إلى مكان. فتجمع من تفاريق البدن حتى تبلغ التراق، ويقول الحاضرون ( من راق ؟ ) أي من يرقى من هذه العلة التي أعيت على الحاضرين، أي التمسوا له من يرقيه. والرقية آخر الطب.
فصل في إثبات النبوة والمعاد بالعقل ومن أسرار هذه السورة أن إثبات النبوة والمعاد يعلم بالعقل، وهذا أحد القولين لأصحابنا وغيرهم، فإن الله سبحانه أنكر على من حسب أنه يترك سدى فلا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، ولم ينف سبحانه ذلك بطريق الخبر المجرد، بل نفاه نفي مالا يليق نسبته إليه ونفي منكر على من حكم به وظنه، ثم استدل سبحانه على فساد ذلك وبين أن خلقه الإنسان في هذه الأطوار وتنقله فيها طورا بعد طور حتى بلغ نهايته يأبى أن يتركه سدى فإنه ينزه عن ذلك كما ينزه عن العبث والعيب والنقص. وهذه طريقة القرآن في غير موضع كما قال تعالى { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } فجعل كمال ملكه، وكونه سبحانه الحق، وكونه لا إله إلا هو، وكونه رب العرش المستلزم لربوبيته لكل ما دونه، مبطلا لذلك الظن الباطل والحكم الكاذب، وإنكار هذا الحسبان عليهم مثل إنكاره عليهم حسبانهم أنه لا يسمع سرهم ونجواهم، وحسبان أنه لا يراهم ولا يقدر عليهم، وحسبان أن يسوي بين أوليائه وبين أعدائه في محياهم ومماتهم، وغير ذلك مما هو منزه عنه تنزيهه عن سائر العيوب والنقائص، وأن نسبة ذلك كنسبة ما يتعالى عنه مما لا يليق: من اتخاذ الولد والشريك ونحو ذلك مما ينكره سبحانه على من حسبه أشد الإنكار. فدل على أن ذلك قبيح ممتنع نسبته إليه، كما يمتنع أن ينسب إليه سائر ما ينافي كماله المقدس. ولو كان نفي تركه سدى إنما يعلم بالسمع المجرد لم يقل بعد ذلك { ألم يك نطفة } إلى آخره.
|
|
| |
|