من حاد حب الكمال تعنُّتًا *** يتبدل الأدنى ويبقى الأحقرَ
فاغتنم حياتك عمرك فلكل *** غادٍ روحة ولكل وضَّاءٍ سِرَار
يا من بدرت منه الخطيئة وكلنا ذاك، عودة عودة إلى أفْيَاء الطاعة، الباب مفتوح، والظل والرخاء من وراء الباب فالزم سُدة الباب، وقم في الدُّجى، واصرخ بلسان الذُّل، مع وجيف القلب، وواكف الدَّمع، يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضُّرُّ. هيا فالنَّفَس يخرج ولا يعود، والعين تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يديْ العزيز الحميد، فلابد من ساعة طاهرة، تكون الرؤوس بها فاغرة، إذا استوفت النفس مكيالها، وزُلْزِلت الأرض زلزالها، فما لك من فرصة للإياب، ولن يرجع العمر بعد الذهاب، تقدم فما زال للصلح باب، وبالموت يغلق باب المتاب (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا)
رِيدِي حياض النجا يا نفس واطَّرحي *** حياض حبِّ الهوى للشاء والنَّعِمِ
بادر قبل أن تُبَادَر، بادر بالإقلاع عن الذنب بشعور بالألم، يقضُّ المضاجع، ويؤرِّق المنام، ويقرِّح الجفون، ويزرع في القلب الحسرة والندامة، مع عزم أَكيد على استئناف حياة صالحة نقية تقية طاهرة. بادر فإن تأخير التوبة من الذنب ذنب يحتاج إلى توبة (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن) بادر فإن الذنب يجر إلى الذنب، فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يُحال بين صاحبه وبين قلبه، وقد يُسلَب إيمانه فبادر. أرأيت لو أن رجلا أُمِرَ باقتلاع شجرة باسقة، كبيرة أصولها وهو شاب، فرآها كبيرة فهابها، وقال: فلندعها إلى الغد، فلمَّا جاء الغدُ قال: لندعها إلى العام القادم، إلى الذي يليه، إلى الذي يليه، فإنه بمرور الوقت تضعف قوته ويخور، ثم لا يستطيع بعدها قلعها، فما لا تقدر عليه في الشباب لا تقدر عليه غالبًا وقت المشيب.
فمن العناء رياضة الهَرِم *** ومن التعذيب تهذيب الدِّيب
والقضيب الرطب يقبل الحَنَا فإن جفَّ وطال عليه الزَّمن صعب واستعصى، والغصن أقرب تقويمًا من الخشب وما عجزت عنه اليوم قد تكون غدًا أشد عجزًا.
فلا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ *** لعل غدًا يأتي وأنت فقيد
فبادر. يُفعل الذنب فَيَخْلَقُ الإيمان في القلب، كما يَخْلَق الثوب، ثم يُغلَّف بالرَّان فيذبل، ثم يقسو (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم من ذِكْرِ اللهِ) ثم يموت، وعندها يُحْرم الإنسان لذَّة مناجاة الله، فعباداته بعد ذلك آليَّة لا روح فيها، لا تزكِّي نفسه، ولا تطهِّر رجْسَه، تلك عقوبة وبلية أي بلية، ثم ينسى القرآن إن كان معه شيء من القرآن، ثم يَهْمِل الاستغفار، ثم يحرص على الذنب مع عدم التلذذ به، كلما حاول أن يعود أُرْكِسَ في ذنبه مع همٍّ وغمٍّ وحزن وخوف وذلٍّ لا يفارقه، أبى الله إلا أن يذلَّ مَنْ عصاه.
ذكر الحافظ [ابن كثير] -رحمه الله- في البداية، في حوادث سنة ثماني وسبعين ومائتين ما يلي بتصرف، قال: وفيها توفي [ابن عبد الرحيم] -قبَّحه الله- هذا الشقي، كان من المجاهدين كثيرًا في بلاد الروم، فلمَّا كان في بعض الغزوات، والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم؛ إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، ما غضَّ بصره، والله يقول: (قُل للْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) أتْبَع النَّظْرة النظرة، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل والآلام والحسرات.
كان كمن أدخل في جحر يدا *** فأخطأ الأفعى ولاقى الأسْوَدَ
نظر فهَوِيَهَا، ثم راسلها، هل إليك من سبيل؟ فقالت: لا سبيل إلا أن تتنصر وتتبرأ من الإسلام، ومن محمد –صلى الله وسلم على نبينا محمد- فأجابها، وقال –ونعوذ بالله مما قال-: هو بريء من الإسلام، ومن محمد، وتنصَّرَ وصعد إليها. لا إله إلا الله، نعوذ بالله من الحَوَر بعد الكَوَر، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، نعوذ بالله أن نردَّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله. المعاصي بريد الكفر، المعاصي بريد الكفر. كم من معصية جرَّت أختها وأختها وأختها، حتى كانت النهاية أن سُلب إيمان العبد، وهذا مَثَلٌ من الأمثلة. ما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتمَّ المسلمون لذلك غمًّا شديدًا، وشق عليهم ذلك مشقة عظيمة، صَدْرٌ وَعَى القرآن يعود ليعبد الصُّلبان، لما كان بعد فترة مرُّوا عليه، وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، عليه ذلّ الكفر وغبرته وقترته، فقالوا: يا [ابن عبد الرحيم] ما فعل علمك؟ ما فعلت صلاتك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعل القرآن؟ فقال في حمأة ذل الكفر: أُنْسِيتُه، ما معي منه سوى آيتين، لكأنه المَعْنِيُ بهما (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ولقد صار لي فيهم مال وولد؛ يعني صار منهم (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرِّف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك، يا رب ثبتنا على الإيمان، ونجِّنَا من سُبُل الشَّيطان. نسألك اللهم حُسْن الخاتمة؛ فهي –وربي- لحظات حاسمة. ونسأل الله لنا السعادة والفوز عند الموت بالشهادة. بادر قبل أن تُبَادَر. هل تنتظر إلا غنى مطغيًا، أو فقرًا منسيًا، أو هِرَمًا مفنِّدًا، أو موتًا مُجْهِزًا، أو الدَّجال فشَرُّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرُّ. إن أول قدم في الطريق بَذْل الروح، فإن كنت تستطيع على بذل الروح فتعال وبادر، وإلا فاذهب والْعب مع اللاعبين حتى يأتيك اليقين. بادر قبل أن تبادر، واصدق الله في توبتك، واجعلها نصوحًا خالصة؛ فإن الله يدعوك في عداد المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ) ويَعِد بالفلاح على ذلك فيقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
فلو داواك كل طبيب داءٍ *** بغير كلام ربي ما شفاك
الصادق في توبته لا يزال ذنبه نصب عينيه، خائفًا منه، مُشْفِقًا، وَجِلا، باكيًا، نادِمًا مستحيًا من ربه، نَاكِسًا الرأس بين يديه، دائم التَّضَرُّع إليه، واللجوء إليه، حتى يقول عدو الله إبليس: ليتني تركتُه فلم أوقعه في ذلك الذنب.
روى [مسلم] في صحيحه: أن امرأة وقعت في كبيرة الزنى في لحظة من لحظات ضعفها، فتذكرت عظمة الله وعقابه ووعيده، فأنابت بشعور عظيم، بمرارة المعصية، وعِظَم الكبيرة، وأرادت البراءة بطريق مُتَيَقَّن لا يتطرق له أدنى احتمال، فجاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا رسول الله، طهرني، فقال ويحك: ارجعي واستغفري الله، وتوبي إليه، كان يكفيها ذلك، لكنها قالت: يا رسول الله، أراك تريد أن تردني كما رددتَّ [ماعز بن مالك]، والله إني لحُبْلَى من الزنا، فطهرني يا رسول الله، قال: أأنت؟ قالت: نعم، فقال لها: ارجعي حتى تضعي ما في بطنك، وبضعة أشهر تمرُّ وهي على خوفها ووَجَلِها وإشفاقها، ثم تضع، وتأتي بالصبي في خِرْقة، وتقول: هو ذا قد وَضَعْتُه فطهرني يا رسول الله، قال: اذهبي فأرضِعِيه حتى تفطميه –وحولان كاملان على خوفها وإشفاقها وعزمها على تطهير نفسها بالحدِّ، والحد كفَّارة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- فطمتْه، وأتت النبي –صلى الله عليه وسلم- بالصبي وفي يده كسرة الخبز، فقالت: هو ذا يا نبي الله، قد فطمته، وأكل الطعام، فطهرني يا رسول الله.
قلبها كأنه مهجة نِضْوٌ ببلقعةٍ *** يعتادها الضاريان؛ الذئب والأسد
دفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أُمِر بها فَحُفِر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فكان فيمن رجمها [خالد] –رضي الله عنه وأرضاه- فتنضَّخ الدم على وجه خالد، فسبَّها وشتمها، فسمعه النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: مهلا يا خالد، فو الذي نفس محمد بيده، لقد تابت توبة لو قُسِّمت على أمة لوسعتهم، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكسٍ لغُفِرَ له. ما ضرها؟ وكأن الذنب لم يكن، وقد بقيَ لها صدقها، وثناء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها وعلى توبتها، وعملها الصالح، وبقي لها شرف الصحبة، والذي لا إله إلا هو لو سجد أحدنا حتى ينكسر صلبه ما بلغ منزلتها؛ إذ هي منزلة الصحبة وكفى بها من منزلة. بقي لها فوق ذلك صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها، ودفنه لها، فرضي الله عنها وأرضاها.
بالصدق زكى الأصل فطاب الفرع *** وطاب المولد فزكى المَحْتِدفنبِّه فؤاداك من رقدة *** فإن الموفَّق مَن ينتبه
وإن كنتُ لم أنتبه بالذي *** وُعِظْتُ به فانتبه أنت به